فصل: ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل زكرويه لعنه الله:

لما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاة، وعلى جميع المسلمين عامة، فجهز المكتفي الجيوش، فلما كان أول ربيع الأول سير وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة، فساروا على طريق حفان فلقيهم زكرويه، ومن معه من القرامطة، ثامن ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز الليل، وباتوا يتحارسون، ثم بكروا إلى القتال، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة.
ووصل عسكر الخليفة إلى عدوالله زكرويه، فضربه بعض الجند وهومول بالسيف على رأسه، فبلغت الضربة دماغه، وأخذه أسيرأن وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه، وفيهم ابنه وكاتبه، وزوجته، واحتوى الجند على ما في العسكر.
وعاش زكرويه خمسة أيام ومات، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداد، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان، فتلوهم جميعأن وأخذوا جماعة من النساء والصبيان، وحمل رأس زكرويه إلى خراسان، لئلا ينقطع الحجاج، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد، والآخر بالمنتقم، وهوأخوامرأة زكرويه، كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم، فلما أخذوهما سيروهما إلى بغداد، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق، فقتل بعضهم، وحبس بعضهم، وما ت بعضهم في الحبس.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة غزا ابن كيغلغ الروم من طرسوس، فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومتاعاً؛ ودخل بطريق من بطارقة الروم في الأمان واسلم.
وفيها غزا ابن كيغلغ فبلغ شكند، وافتتح الله عليه، وسار إلى الليس، فغمنوا نحواً من خمسين ألف رأس، وقتلوا مقتلة عظيمة من الروم، وانصرفوا سالمين.
وكاتب أندرونقس البطريق المكتفي بالله يطلب منه الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل ملك الروم، فأعطاه المكتفي ما طلب، فخرج ومعه مائتا أسير من المسلمين كانوا في حصنه، وكان ملك الروم قد أرسل لقبض عليه، فأعطى المسلمين سلاحاً وخرجوا معه، فقبضوا على الذي أرسله ملك الروم ليقبض عليه ليلأن فقتلوا ممن معه خلقاً كثيرأن وغمنوا ما في عسكرهم، فاجتمعت الروم على أندرونقس ليحاربوه، فسار إليهم جمع من المسلمين ليخلصوه ومن معه من أسرى المسلمين، فبلغوا قونية، فبلغ الخبر إلى الروم، فانصرفوا عنه، وسار جماعة من ذلك العسكر إلى أندرونقس، وهوبحصنه، فخرج ومعه أهله إليهم، وسار معهم إلى بغداد، واخرب المسلمون قونية، فأرسل ملك الروم إلى الخليفة المكتفي فطلب الفداء.
وفيها ظهر بالشام رجل يدعي أنه السفياني فأخذ وحمل إلى بغداد فقيل إنه موسوس.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وبين أعراب من بني كلب، وطي، واليمن، وأسد، وغيرهم.
وفيها حاصر أعراب طي وصيف بن صوارتكين بفيد، وقد سيره المكتفي أميراً على الموسم، فحصروه ثلاثة أيام، ثم خرج فواقعهم، فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف بمن معه؛ وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمي.
وفيها توفي صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة البغدادي، وأبوعبيد الله محمد بن نصر الروزي، الفقيه الشافعي، وكان موته بسمرقند، وله تصتنيف كثيرة.
وفيها قتل محمد بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه بطريق مكة؛ قتله القرامطة حين أخذوا الحاج.

.حوادث سنة خمس وتسعين ومائتين:

.ذكر وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني وولاية ابنه أحمد:

في هذه السنة، منتصف صفر، توفي إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر، ببخارى، وكان يلقب بعد موته بالماضي، وولي بعده ابنه أبونصر أحمد، وأرسل إليه المكتفي عهده بالولاية، وعقد لواءه بيده.
وكان إسماعيل عاقلأن عادلأن حسن السيرة في رعيته، حليماً؛ حكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومأن والمؤدي لا يعلم به، فسمعه وهويسب إبنه، ويقول له: لا بارك الله فيك، ولا فيمن ولدك! فدخل إليه، وقال له: يا هذأن نحن لم نذنب ذنباً لتسبّنا، فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل عنه، وأمر له بصلة جزء لخوفه منه.
وقيل: جرى بين يديه ذكر الأنساب والأخشاب فقال لبعض جلسائه: كن عصامياً ولا تكن عظامياً؛ فلم يفهم مراده، فذر له معنى ذلك.
وسأل يوماً يحيى بن زكرياء النيسابوري فقال له: ما السبب في أن آل معاذ لما زلت دولتهم بقيت عليهم نعمتهم بخراسان، مع سوء سيرتهم وظلمتهم، وأن آل طاهر لما زالت دولتهم عن خراسان زالت معها نعمتهم مع عدلهم، وحسن سيرتهم، ونظرهم لرعيتهم؟ فقال له يحيى: السبب في ذلك أن آل معاذ لما تغير أمرهم كان الذي ولي البلاد بعدهم آل طاهر في عدلهم، وإنصافهم، واستعفافهم عن أموال الناس، ورغبتهم في اصطناع أهل البيوتات، فقدموا آل معاذ وأكرموهم، وأن آل طاهر لما زالت عنهم كان سلطان بلادهم آل الصفار في ظلمتهم، وغشمهم، ومعاداتهم لأهل البيوتات ومناصبتهم لأهل الشرف والنعم، فأتوا عليهم وأزالوا نعمتهم.
فقال إسماعيل: لله درك يا يحيى، فقد شفيت صدري! وأمر له لصلة.
ولما ولي بعد أخيه كان يكتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم أولأن فقيل له في ذلك، فقال: يجب علينأن إذا زادنا الله رفعة، أن لا ننقص إخواننا بل نزيدهم رفعة، وعلى، وجاهأن ليزيدوا لنا إخلاصاً وشكراً.
ولما ولي بعده أبونصر أحمد، واستوثق أمره، أراد الخروج إلى الري، فاشرا عليه إبراهيم بن زيدويه بالخروج إلى سمرقند والقبض على عمه إسحاق ابن أحمد لئلا يخرج عليه ويشغله، ففعل ذلك، واستدعى عمه إلى بخارى، فحضر فاعتقله بهأن ثم عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد، خوفاً منه.
وكان سبب خوفه أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان لما أخذها من محمد بن زيد، ثم عزله عنهأن واستعمل عليها بارس الكبير، على ما ذكرناه، فاجتمع عند بارس أموال جمة من خراج الري، وطبرستان، وجرجان، فبلغت ثمانين وقرأن فحملها إلى إسماعيل، فلما سارت عنه بلغه خبر موت إسماعيل، فردها واخذهأن فلما سار إليه أحمد خافه، وكتب إلى المكتفي يستأذنه في المصير إليه، فأذن له في ذلك، فسار إليه في رابعة آلاف فارس، فأرسل أحمد خلفه عسكرأن فلم يدركوه، واجتاز الري، فتحصن بها نائب أحمد بن إسماعيل، فسار إلى بغداد، فوصلها وقد مات المكتفي، وولي المقتدر بعده، فأعجبه المقتدر.
وكان وصوله بعد حادثة ابن المعتز، فسيره المقتدر في عسكره إلى بني حمدان، وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدم عليهم، فووضعوا عليه غلاماً فسمه فمات، واستولى غلامه على ماله، وتزوج امرأته، وكان موته بالموصل.

.ذكر وفاة المكتفي:

في هذه السنة في ذي القعدة توفي أمير المؤمنين المكتفي بالله أبومحمد علي ابن المعتضد بالله أبي العباس احمد بن الموفق بن المتوكل؛ وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين سنة؛ وكان ربعاً جميلأن رقيق البشرة، حسن الشعر، وافر اللحية، وكنيته أبومحمد، وأمه أم ولد تركية، اسمها جيجك؛ وطال عليه مرضه عدة شهور، ولما مات دفن بدار محمد بن طاهر، رحمه الله.

.ذكر خلافة المقتدر بالله:

وكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة، وهوأبوالفضل جعفر بن المعتضد، أن المكتفي لما ثقل في مرضه أفكر الوزير جينئذ، وهوالعباس بن الحسن، فيمن يصلح للخلافة، وكان عادته أن يسايره، إذا ركب إلى دار الخلافة، واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين، وهم: أبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح، وأبوالحسن محمد بن عبدان، وأبوالحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبوالحسن علي بن عيسى، فاستشار الوزير يوماً محمد ابن داود بن الجراح في ذلك، فأشار بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والأدب والرأي، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات، فقال: هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه، وإمنا اشاور في العمال لا في الخلفاء؛ فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة باردة، وليس يخفي عليك الصحيح.
وألح عليه، فقال: إن كان رأي الوزير قد استقر على احد يعينه فليفعل؛ فعلم أنه عنى ابن المعتز لأشتهار خبره. فقال الوزير: لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة. فقال ابن الفرات: فليتفق الله الوزير، ولا ينصب إلا من قد عرفه، واطلع على جميع أمواله، ولا ينصب بخيلاً فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم، ولا طماعاً فيشره في أموالهم، فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم، ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والأثام، ويرجوالثواب فيما يفعله، ولا يول من عرف نعمة هذأن وبستان هذأن وضيعة هذأن وفرس هذأن ومن قد بقي الناس ولقوه، وعاملهم وعاملوه، ويتخيل، ويحسب حساب نعم الناس، وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير: صدقت ونصحت، فبمن تشير؟ قال: أصلح الموجود جعفر بن المعتضد؛ قال: ويحك، هوصبي؛ قال ابن الفرات: إلا أنه ابن المعتضد، ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه، غير محتاج إلينا.
ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى، فلم يسم أحدأن وقال: لكن ينبغي أن يتقي الله، وينظر من يصلح لدين والدنيا؛ فمالت نفس الوزير ألى ما أشار به ابن الفرات، وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي، فإنه أوصى، لما اشتد مرضه، بتقليد أخيه جعفر الخلافة، فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفراً للخالفة، وعينه لهأن وأرسل صافياً الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنهأن فلما حطه في الحراقة وحدره، وصارت الحراقة مقابل دار الوزير، صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير، فظن الحرمي أن الوزير يريد القبض على جعفر، وينصب في الخلافة غيره، فمنع الملاح من ذلك، وسار إلى دار الخلافة، وأخذ له صافي البيعة على الخدم، وحاشية الدار، ولقب نفسه المقتدر بالله، ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر.
ولما بويع المقتدر كان في بيت المال، حين بويع، خمسة عشر ألف ألف دينار، فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة.
وكان مولده المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فلما بويع استصغره الوزير، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكثر كلام الناس فيه، فعزم على خلعه، وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله وكان حسن السيرة، جميل الوجه والفعل، فراسله في ذلك، واستقر الحال، وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان، وكان قد أذن له في القدوم، كما ذكرناه، وأراد الوزير أن يستعين به على ذلك، ويتقوى به على غلمان المعتضد، فتأخر بارس.
واتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه، صاحب الشرطة، منازعه في ضيعة مشتركة بينهمأن فاغلظ له ابن عمرويه، فغضب ابن المعتمد غضباً شديدأن أغمي عليه وفلج في المجلس، فحمل إلى ثيته في محفة، فمات في اليوم الثاني، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل، فمات أيضاً بعد خمسة أيام، وتم أمر المقتدر.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كانت وقعة بين نجح بن جاخ وبين الاجناد بمنى، ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة، لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر بالله، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر، وأصحاب الحجاج في عودهم عطش عظيم فمات منهم جماعة.
وحكي أن أحدهم كان يبول في كفه تم يشربه.
وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أصبهان إلى قرية من قراها مخالفاً للخليفة، واجتمع إليه نحومن عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم، فامر بدر الحمامي بالمسير إليه، فسار في خمسة آلاف من الجند، وأرسل إليه المنصور بن عبد الله بن منصور الكاتب يخوفه عاقبة الخلاف، فسار إليه وادى إليه الرسالة، فرجع إلى الطاعة، وسار إلى بغداد، واستخلف على عمله باصبهان، فرضي عنه المكتفي بالله.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طي، الذين كانوا حصروا وصيفأن على غرة منهم، فقتل فيهم كثيرأن وأسر.
وفيها أوقع الحسن بن أحمد بالأكراد الذين تغلبوا على نواحي الموصل، فظفر بهم، واستباحهم، ونهب أموالهم، وهرب رئيسهم إلى رؤوس الجبال، فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن جاخ بعض ما كان غلب عليه الخارجي باليمن، وخذ رئيساً من رؤساء أصحابه، ويعرف بالحكيمي.
وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة، وكان عدة من فودي به من الرجال والنساء ثلاثة آلاف نفس؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي أبوبكر محمد بن إسماعيل بن مهران الجرجاني الإسماعيلي، الفقيه الشافعي المحدث؛ ومحمد بن أحمد بن نصر أبوجعفر الترمذي الفقيه الشافعي، توفي ببغداد؛ وأبوالحسين أحمد بن محمد النوري شيخ الصوفية؛ وتوفي الحسين بن عبد الله بن أحمد أبوعلي الخرقي، الفقيه الحنبلي، يوم الفطر الخرقي بالخاء المعجمة والقاف؛ وعبد الله ابن أبي دارة. ثم دخلت:

.سنة ست وتسعين ومائتين:

.ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز:

وفي هذه السنة اجتمع القوّاد، والقضاة، والكتّاب، مع الوزير العبّاس بن الحسن، على خلع المقتدر، والبيعة لابن المعتزّ، وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك، فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم، ولا حرب، فأخبروه باجتماعهم عليه، وأنّهم ليس لهم منازعٌ ولا محاربٌ.
وكان الرأس في ذلك العبّاس بن الحسن، ومحمّد بن داود بن الجَرّاح، وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي؛ ومن القوّاد الحسين بن حمدان، وبدر الأعجميُّ، ووصيف بن صوارتكين.
ثمّ إنّ الوزير رأى أمره صالحاً مع المقتدر، وأنّه على ما يحبّ، فبدا له في ذلك، فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين ابن حّمدان، وبدر الأعجميّ، ووصيف، ولحقوه، وهو سائر إلى بستان له، فقتلوه في طريقه، وقتلوا معه فاتكاً المعتضديَّ، وذلك في العشرين من ربيع الأوّل، وخُلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتّز.
وركض الحسين بن حَمدان إلى الحَلبة ظنّاً منه أنّ المقتدر يلعب هناك بالكرة، فيقتله، فلم يصادفه، لأنّه كان هناك، فبلغه قتل الوزير وفاتك، فركض دابّته فدخل الدار، وغُلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر.
وأحضروا ابن المعتّز وبايعوه بالخلافة، وكان الذي يتولّى أخذ البيعة له محمّد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس، والقوّاد، وأصحاب الدواوين، سوى أبي الحسن بن الفُرات، وخواصّ المقتدر، فإنّهم لم يحضروا، ولُقّب ابنُ المعتزّ المرتضي بالله، واستوزر محمّد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين، وكُتبت الكتبُ إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العبّاس عبدالله بن المعتزّ بالله، ووجّه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيماً فيها، لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال إلى الليل.
وعاد الحسين بن حَمدان بُكرة غد إلى دار الخلافة، فقاتله الخدم والغلمان والرجّالة من وراء الستور عامّة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار، فلمّا جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكلّ ما له إلى الموصل، لا يُدرى لِمَ فعل ذلك؛ ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مُؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغريب الخال وحاشية الدار.
فلمّا همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نُبلي عّذراً، ونجتهد في دفع ما أصابنا؛ فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتزّ بالحرم يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديّات وغير ذلك، وركبوا السُّمَيريّات، وأصعدوا في الماء، فلمّا رآهم مَن عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر، وهذا كان سبب هربه.
ولمّا رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمّد بن داود وهربا، وغلام له ينادي بين يديه: يا معشر العامّة، ادعوا لخليفتكم السنّيّ البربهاريّ، وإنّما نسبت هذه النسبة لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاريّ كان مقدّم الحَنابلة والسُّنّة من العامّة، ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول.
ثمّ إنّ المعتزّ ومَن معه ساروا نحو الصحراء، ظنّاً منهم أنّ مَن بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد، فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سُرَّ من رأى بمن يتبعهم من الجند، فيشتدّ سلطانهم، فلمّا رأوا أنّهم لم يأتهم أحدٌ رجعوا عن ذلك الرأي، واختفى محمّد بن داود في داره ونزل ابن المعتزّ عن دابّته، ومعه غلامه يَمِن، وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص، فاستجار به، واستتر أكثر مَن بايع ابن المعتزّ، ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد، وثار العيّارون والسُّفّل ينهبون الدور.
وكان ابن عمرَويْه، صاحب الشُّرطة، ممّن بايع ابن المعتزّ، فلمّا هرب جمع ابن عمرّويْه أصحابه، ونادى بشعار المقتدر، يدلّس بذلك، فناداه العامّة: يا مرائي، يا كذّاب! وقاتلوه، فهرب واستتر، وتفرّق أصحابه، فهجاه يحيى بن عليّ بأبياتٍ منها:
بايعوه فلم يكن عند الأن ** وك إلاّ التغييرُ والتخبيط

رافضيّون بايعوا أنْصَبَ الأ ** مَة هذا لعَمْريَ التخليطُ

ثمّ ولَّى من زَعْقَةٍ ومحامو ** ومن خلفهم لهم تَضريطُ

وقلّد المقتدر، تلك الساعة، الشُّرطة مؤنساً الخازن، وهُو غير مؤنس الخادم، وخرج بالعسكر، وقبض على وصيف بن صُوارتكين وغيره، فقتلهم، وقبض على القاضي أبي عُمر، وعليّ بن عيسى، والقاضي محمّد ابن خلف وكيع، ثمّ أطلقهم، وقبض على القاضي المثنّى أحمد بن يعقوب، فقتله لأنّه قيل له: بايع المقتدر، فقال: لا أبايع صبيّاً، فذُبح.
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفُرات، وكان مختفياً، فاحضره واستوزره، وخلع عليه.
وكان في هذه الحادثة عجائب منها: أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لأبن المعتزّ، فلم يتمّ ذلك، بل كان على العكس من إرادتهم، وكان أمر الله مفعولاً.
ومنها أنّ ابن حَمدان، على شدّة تشيّعه وميله إلى عليّ، عليه السلام، وأهل بيته، يسعى في البيعة لابن المعتزّ على انحرافه عن عليّ وغلوّه في النصْب إلى غير ذلك.
ثمّ إنّ خادماً لابن الجَصّاص، يُعرف بسوسن، أخبر صافياً الحرميَّ بأنّ ابن المعتزّ عند مولاه، ومعه جماعة، فكُبست دار ابن الجَصّاص، وأُخذ ابن المعتزّ منها، وحُبس إلى الليل، وعُصِرتْ خصيتاه حتّى مات، ولُفّ في كساء، وسُلّم إلى أهله.
وصودر ابن الجَصّاص على مال كثير، وأُخذ محمّد بن داود وزير ابن المعتزّ، وكان مستتراً، فقُتل، ونُفي عليُّ بن عيسى إلى واسط، فأرسل إلى الوزير ابن الفُرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكّة، فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها.
وصودر القاضي أبو عُمر على مائة ألف دينار، وسُيّرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حَمدان فتبعوه إلى الموصل، ثمّ إلى بَلَد فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان، وهو الأمير على الموصل، يأمره بطلبه، فسار إليه إلى بَلَد، ففارقها الحسين إلى سِنجار، وأخوه في أثره، فدخل البرّيّة فتبعه أخوه عشرة أيّام، فادركه، فاقتتلوا، فظفر أبو الهيجاء، وأسر بعض أصحابه، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وعاد عنه إلى الموصل، ثمّ انحدر إلى بغداد، فلمّا كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين، فبيّته، فقتل منهم قتلى، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد.
وأرسل الحسين إلى ابن الفُرات، وزير المقتدر، يسأله الرضى عنه، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه، وعن إبراهيم بن كَيْغَلَغ، وابن عمرَوَيْه صاحب الشُّرطة وغيرهم، فرضي عنهم، ودخل الحسين بغداد، فرد عليه أخوه ما أخذ منه، وأقام الحسين ببغداد إلى أن وليّ قُمّ فسار إليها، وأخذ الجرائد التي فيها أسماء مَن أعان على المقتدر، فغرَّقها في دجلة، وبسط ابن الفُرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعبّاسيّين والطالبيّين، وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيوت الأموال.

.ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيها مثل فعل صاحبها:

كان سليمان بن الحسن بن مخلَّد متّصلاً بابن الفرات، وبينهما مودّة وصداقة، فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتزّ بخطّ سليمان، وقلّده الأعمال، فسعى سليمان بابن الفرات إلى المقتدر، وكتب بخطّه مطالعة تتضمّن ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته وما يتعلّق بأسبابه، وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر، فلم يتهيّأ له ذلك.
وحضر دارَ الوزير وهي معه، وسقطت من كمّه، فظفر بها بعضُ الكتّاب فأوصلها إلى الوزير، فلمّا قرأها قبض على سليمان، وجعله في زورق، وأحضره إلى واسط، ووكّل به هناك، وصادره، ثمّ أراد العفو عنه، فكتب إليه: نظرتُ، أعزّك الله، في حقّك عليّ وجرمك إليّ، فرأيتُ الحقّ مُوفياً على الجرم، وتذكّرتُ من سالف خدمتك ما عطفني عليك، وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت؛ وأطلق له عشرة آلاف درهم، وعفا عنه، واستعمله وأكرمه.

.ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمره:

في هذه السنة، مستهلّ شهر رمضان، وليّ أبو مُضر زيادة الله بن أبي العبّاس بن عبدالله إفريقية، بعد قتل أبيه، فعكف على اللذّات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين، وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعيّة، وأرسل كتاباً يوم وُلّي إلى عمّه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه، ويحثّه على السُّرعة، فسار مجدّاً ولم يعلم بقتل أبي العبّاس، فلمّا وصل قتله، وقتل مَن قدر عليه من أعمامه وإخوته.
واشتدّت شوكة أبي عبدالله الشيعيّ في أيّامه، وقوي أمرُه، وكان الأحوال قبالته، فلمّا قُتل صفتْ له البلاد، ودانت له الأمصار والعباد، فسيّر إليه زيادة الله جيشاً مع إبراهيم بن أبي الأغلب، وهو من بني عمّه، بلغت عدّتهم أربعين ألفاً سوى من انضاف إليه، فهزمه أبو عبدالله الشيعيُّ على ما ذكرناه آنفاً؛ فلمّا اتّصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنّه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه، فجمع ما عزّ عليه من أهل ومال وغير ذلك، وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق، وأظهر للناس أنّه قد جاءه خبرُ هزيمة أبي عبدالله الشيعيّ، وأمر بإخراج رجال من الحبس، فقتلهم، وأعلم خاصّته حقيقة الحال، وأمرهم بالخروج معه.
فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه. قال له: إنّ أبا عبدالله لا يجسر عليك، فشتمه، وردّ عليه رأيه، وقال: أحبّ الأشياء إليك أن يأخذني بيدي. وانصرف كلّ واحد من خاصّته وأهله يتجهّز للمسير معه، وأخذ ما أمكنه حمله.
وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدّتها، وكثرت عبيدها وقوي سلطانها، وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ستّ وتسعين ومائتين، واجتمع معه خلق عظيم، فلم يزل سائراً حتّى وصل طرابلس، فدخلها، فأقام بها تسعة عشر يوماً، ورأى بها أبا العبّاس أخا أبي عبدالله الشيعيّ، وكان محبوساً بالقيروان، حبسه زيادة الله، فهرب إلى طرابلس، فلمّا رآه أحضره وقرّره: هل هو أخو أبي عبدالله؟ فأنكر وقال: أنا رجل تاجر قيل عنّي إنّني أخو أبي عبدالله فحبستَني. فقال له زيادة الله: أنا أطلقك، فإن كنت صادقاً في أنّك تاجر فلا نأثم فيك، وإنّ كنتَ كاذباً، وأنت أخو أبي عبدالله، فليكن للصنيعة عندك موضع، وتحفظنا فيمن خلّفناه. وأطلقه.
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب، فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان، فعلما ذلك، وهربا إلى مصر، وقدما على العامل بها وهو عيسى النُّوشريُّ، فتحدّثا معه، وسعيا بزيادة الله، وقالا له: إنّه يُمنيّ نفسه بولاية مصر، فوقع ذلك في نفسه، وأراد منعه عن دخول مصر إلاّ بأمر الخليفة من بغداد، فوصل زيادة الله ليلاً، وعبر الجسر إلى الجيزة قهراً، فلمّا رأى ذلك النُّوشريُّ لم يمكنه منعه، فأنزله بدار ابن الجصّاص، ونزل أصحابه في مواضع كثيرة، فأقام ثمانية أيّام، ورحل يريد بغداد، فهرب عنه بعض أصحابه، وفيهم غلام له، وأخذ منه مائة ألف دينار، فأقام عند النُّوشريِّ، فأسرل النُّوشريُّ إلى الخليفة، وهو المقتدر بالله، يعرّفه حال زيادة الله وحال من تخلّف بمصر، فأمره بردّ من تخلّف عنه إليه مع المال، ففعل.
وسار زيادة الله حتّى بلغ الرَّقّة وكتب إلى الوزير، وهو ابن الفرات، يسأله في الإذن له لدخول بغداد، فأمره بالتوقّف، فبقي على ذلك سنة، فتفرّق عنه أصحابه، وهو مع هذا مُدمن الخمر، واستماع الملاهي، وسُعي به إلى المقتدر، وقيل له يُرَدّ إلى المغرب يطلب بثأره، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعُدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب، فعاد إلى مصر، فأمره النُّوشريُّ بالخروج إلى ذات الحمّام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال والمال، ففعل، ومطله، فطال مُقامه، وتتابعت به الأمراض، وقيل بل سمّه بعض غلمانه، فسقط شعر لحيته، فعاد إلى مصر، وقصد البيت المقدّس، فتوفّي بالرملة ودُفن بها.
فسبحان الحيّ الذي لا يموت، ولا يزول ملكه، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدّة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وكانوا يقولون: إنّنا نخرج إلى مصر والشام، ونربط خيلنا في زيتون فلسطين؛ فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظّنوه.